آخر الإضافات
الموسوعة اليافعية

دويلة ابن مقيص الأحمدي في تريم

دويلة ابن مقيص الأحمدي في تريم(1):

التعريف بتريم:

تريم مدينة تاريخية قديمة، وهي قاعدة حضرموت كما يقول ابن عبيد الله(2)، وتقع مدينة تريم على خط طول 48 درجة و58 دقيقة و32 ثانية شرق خط جرينتش، ودائرة عرض 16 درجة ودقيقتين و57 ثانية شمال خط الاستواء، وعلى بُعد 34 كيلومتر شمال شرق مدينة سيئون حيث يبدأ وادي المسيلة، وكانت في مطلع العصر الإسلامي عاصمة لوادي حضرموت، حيث كان يقيم فيها عامل الرسول r والخلفاء الراشدين الصحابي (زياد بن لبيد البياضي).

وقد اشتهرت هذه المدينة بكثرة مساجدها وبأنها بلاد علم، وعرفت بكثرة العلماء ومريدي المعرفة، كما اشتهرت تريم أيضًا بوجود المكتبات والأربطة والمعاهد والزوايا العلمية، وكثرة العلماء الأجلاء(3).

نشوء الدويلة:

بالنظر إلى اليأس الذي استقر في نفوس الدعاة إلى الإصلاح من تصرفات السلطات اليافعية والكثيرية القائمة حينذاك في تريم وسيئون وشبام ونواحيها، وكذلك بالنظر إلى الاضطرابات الأمنية وتفشي الظلم والجور والقتل في وادي حضرموت، وذلك في منتصف القرن الثالث عشر الهجري سنة 1786م فكر العلويون في إقامة دولة تقيم العدل، وتحقق العدالة، وتبث الاطمئنان في النفوس، وتوطد دعائم الأمن والاستقرار في النفوس في ربوع الوادي - حسب قولهم(4) - فاجتمع بعض العلويين من دعاة الإصلاح، وفي مقدمتهم أحمد بن عمر بن سميط، وعبدالله بن حسين بن طاهر، وحسن بن صالح البحر الجفري، فوقع اختيارهم على الشيخ المقدم عمر بن عبدالله بن مقيص الأحمدي اليافعي أحد سكان قرية (بيت جبير) ليكون أميرًا لدولتهم المرجوَّة، وقد وصف ابن هاشم الشيخ المقدم عمر بن عبدالله بن مقيص الأحمدي بقوله: «رجل ذو نية صالحة وميل للصلاح والخير، وذو شجاعة وعزم، ولديه عصبة لا بأس بها»(5).

ويبدو أن السبب الحقيقي لقيام هذه الدويلة في نظرنا هو تخوُّف العلويين من المد السلفي القادم الذي يقوده الأمير ابن غرامة الذي اقتنع بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وفرضها في تريم، وأبطل الكثير من البدع الموجودة آنذاك في تريم، وقد رأى السادة العلويون أن ابن مقيص وجماعته الصغيرة من آل الأحمدي جديرون بالنهوض بمهام الدولة المنتظرة، وسرعان ما كانت المفاوضة معه، فعرض العلويون الخطوط العريضة للفكرة على ابن مقيص ورهطه، فأبدى استعداده للعمل أميرًا يؤيد الشرع الشريف، وأنه سوف يعمل بما يشير عليه أعيان العلويين وعلماؤهم شريطة أن يمدوه بالمال ويعضدوه بنفوذهم. وإليه يشير السيد عبدالله بن عمر بن يحيى في مكاتبة له يقول: «والجهة لم يقيض الله لها سلطان، يدفع عنها كل شيطان، فهي حالكة خاربة، والهجرة منها واجبة، والناس فرحون بالرجل الخارج من الجهة الجاوية، إذا كان صالح النية، وله همة علية، ومستبد بنفسه، بكثرة العبيد والمدافع الكبار القوية، تاركًا الاستهانة بقبائل الجهة بالكلية، ولا يعطيهم إلا السيوف والبنادق الروسية، منفذ للأحكام الشرعية المحمدية»(6). 

وقبل إعلان قيام الدولة فكر العلويون في تأسيس قاعدة حربية لهذه الدولة، تكون منطلقًا لحركاتها العسكرية، وترسانة لمهام الغزو والفتح، فاشترى العلويون له (حصن مـُطَهَّر) بوابة تريم(7) من آل مطهر اليافعيين، ويقع هذا الحصن في سفح تل صغير في المكان المسمى حيد قاسم، جنوب مدينة تريم، ووضعوا فيه مدفعًا باروديًا توكيدًا منهم لهيبة الدولة المنتظرة، وحينها فكر العلويون في وزير كفء للأمير المرتقب، ووقع الاختيار على عبدالله بن أبي بكر عيديد وزيرًا ومشيرًا للأمير.

ويقول عبدالرحمن بن محمد بن شهاب في قصيدة طويلة له منها:

فاسمع كلامي بلطف ياغريب الدار ** ذا لاحمدي قد وصل قادم من لسفار

غاير على أهل النبوة شيخه المحضار ** عمر إذا ضاقت ادعه معدن البرهان

ثم يقول:

هذا عمر خو علي لحمدي قد قام ** عسى الله به يصلح دعائم الإسلام

تمسي ذياب الفلا ترعى مع لغنام ** اذا أتى العدل فاضت رحمة المنان

حماه ربي من الأعداء بحق الطور** واجعله يا ربنا في قطرنا منصور

تضحى تريم المدينة شارحة بالنور** مرصعة من عقود الدر والمرجان(8)

وفي شهر ربيع الثاني سنة 1243هـ/ 1828م أعلن قيام دولة ابن مقيص بقرية (بيت جبير)، وكأن عناصر الملك قد اكتملت لها في نظر بُناتها ومؤسسيها، لكنَّ هذه الدولة تعثرت منذ يومها الأول لقيامها، وحاول القوم جهدهم أن يدفعوا بأميرهم المستجد إلى الأمام لكن دون جدوى، فباءت مجهوداتهم بالفشل، وليس يعرف على وجه التحديد السبب الحقيقي خلف هذا الفشل الظاهر.

وقد انهارت الدويلة ولما تمض على إنشائها سنتان، وبذلك تحطمت آمال العلويين، ومن كان يشاطرهم تلك الآمال من الحضارمة في استتباب الأمن ونشر العدل بين الناس على يد ابن مقيص، وكانت دويلة ابن مقيص أقصر دويلة تذكر في تاريخ حضرموت، حتى أصبحت مثلًا يضرب في قصر المدة، فيقال: (كما دويلة ابن مقيص) دلالة على عدم الثبوت والاستقرار والاستمرار.

وفي هذه الدولة وفي أميرها قال وزيرها السيد عبدالله بن أبي بكر عيديد من قصيدة طويلة:

ولمـَّا رأيت لهاة الهياج حسبتك فحلًا وأنت خصي تبرقع فإنك مثل النساء وصغ لك عقدين من بصبص لقد هانها الله من دولة تربت على الدِّجر والحمبص

إلى قوله:

فخلوا البنـادق لأربابهـا وشلو بديل البنادق عصي وقولوا عسى الله ينصف لنا ويرجم أعداءنا بالحصي

ومات الوزير عيديد  ولا ندري هل كان يعني ببيتيه الآخرين العلويين بناة الدولة، أم كان يعني أميرها ابن مقيص ورجاله ! لقد كان له على أي حال  نصيب من (دولة الدجر والحنبص) بحكم وزارته لها.(9)

أفلت دويلة بن مقيص والناظرون إليها ينشدون قول التهامي(10):

يا كوكبًا ما كان أقصر عمره

وكذاك عُمْر كواكب الأسحار

**

(1) يذكر ابن عبيدالله أن ابن مقيص من آل أحمد التميميين وليس من يافع، فذكر أن بعض المعمرين أخبره أن ابن مقيص هو الذي اشترى حصن ابن مطهر أولًا، ولمـَّا تلاشت دولته قام آل حتيش وهم من آل قصير التميميين بالنيابة عنه أو عن ورثته.. ومنه يتأكد القول السابق في أخبار ابن مقيص بأن آل أحمد الذين كان ابن مقيص منهم هم من آل تميم لا من يافع، وإلا فلماذا كان أمره وإرثه إليهم من دون يافع مع كثرتهم ودولتهم؟! فليتأمل. ينظر: السقاف: بضائع..، ج3، ص3؛ أما بامطرف وغيره فيرجعون ابن مقيص ليافع. ينظر: بامطرف: المختصر..، ص104.

(2) السقاف: إدم القوت..، ط المنهاج، ص871.

(3) ينظر: السقاف: إدم القوت..، ط المنهاج، ص871- 873.

(4) بامطرف: المختصر..، ص104- 107.

(5) بن هاشم: محمد، حضرموت تاريخ الدولة الكثيرية، دار تريم للدراسات والنشر، تريم، ط1، 2002م، ص191.

(6) السقاف: بضائع..، ج2، ص276.

(7) باوزير: سعيد عوض، الفكر والثقافة في التاريخ الحضرمي، دار الطباعة الحديثة، مصر، ص201.

(8) السقاف: بضائع..، ج2، ص278.

(9) بامطرف: المختصر..، ص106-  107.

(10) بن هاشم: تاريخ الدولة..، ص191- 195.